سورة النور - تفسير تفسير ابن القيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم. وهذا هو النور الذي أودعه اللّه في قلب عبده من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره. وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين الناس. وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادته فتتزايد حتى تظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل وثيابهم ودورهم، يبصره من هو من جنسهم، وإن كان سائر الخلق له منكر فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا.
منهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر يعطي نورا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذ كانت هذه حال نوره في الدنيا، فأعطي على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا، بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نورا ظاهرا ماله؟؟؟ إلى الظلمة والذهاب.
وضرب اللّه عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة وهي الكوّة في الحائط فهي مثل الصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج حتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه. وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب المؤمن، وهي الصفاء والرقة والصلابة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء اللّه تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق، ويصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفة منه صفة اخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} [48: 29] وقال تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [3: 159] وقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [66: 9].
وفي أثر: «القلوب آنية اللّه تعالى في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها».
وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان على طرفي نقيض.
أحدهما: قلب حجري قاس، لا رحمة فيه، ولا إحسان ولا بر، ولا له صفاء يرى به الحق، بل جبار جاهل، لا علم له بالحق ولا رحمة فيه للخلق.
وبإزائه قلب ضعيف مائي لا قوة ولا استمساك، بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصور، ولا قوة التأثير في غيره. وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف، وطيب وخبيث.
وفي الزجاجة مصباح، وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته.
ولذلك النور مادة وهو زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى أنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار.
فهذه مادة نور المصباح. وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن: هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها عن الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء.
فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.
ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار فاشتدت بها إضاءته وقويت مادة ضوء النارية فيه كان ذلك نورا على نور.
وهكذا المؤمن: قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من نفسه، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه. وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره اللّه تعالى عليه. فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة. نور على نور، فيكاد ينطق بالحق، وإن لم يسمع فيه أثرا، ثم يسمع الأثر مطابقا لما شهدت به فطرته، فيكون نورا على نور.
فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلا، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي وعن شهادة الفطرة.
فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة فقد ذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض، ونوره في قلب عباده المؤمنين: النور المعقول المشهور بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي. فهما نوران عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر.
وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره، لأن الحيوان إنما يكون حيث يكون النور، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان ولا يكون البتة، فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والايمان ميتة ولا بد، وقلب فقد منه هذا النور: ميت ولا بد، لا حياة له البتة، كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه.
{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [24: 35].
وقد فسر قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} بكونه منور السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، فبنوره اهتدي أهل السموات والأرض.
وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به. ومنه اشتق له اسم النور، الذي هو أحد الأسماء الحسنى.
والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله.
فالأول كقوله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها} [39: 69] فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى، إذا جاء لفصل القضاء.
ومنه قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الدعاء المشهور: «أعوذ بنور وجهك الكريم: أن تضلّني. لا إله إلا أنت».
وفي الأثر الآخر: «أعوذ بوجهك، أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات».
فأخبر صلّى اللّه عليه وسلّم: أن الظلمات أشرقت لنور وجه اللّه، كما أخبر تعالى: أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.
وفي معجم الطبراني والسنة له، وكتاب عثمان بن سعيد الدرامي وغيرها: عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال: «ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه».
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أقرب إلى تفسيره الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض.
وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض فلا يتنافى بينه وبين قول ابن مسعود.
والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال قام بيننا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بخمس كلمات، فقال: «إن اللّه لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: «سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: هل رأيت ربك؟ قال: نور. أنّي أراه».
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه يقول: معناه: كان ثمّ نور، أو حال دون رؤيته نور، فإنّي أراه؟
قال: ويدل عليه: أن في بعض الألفاظ الصحيحة: «هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورا».
وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس، حتى صححه بعضهم فقال: «نور إني أراه» على أنها ياء النسب. والكلمة كلمة واحدة.
وهذا خطأ لفظا ومعنى. وإنما أوجب لهم هذا الأشكال والخطأ: انهم لما اعتقدوا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه، وكان قوله: «أني أراه» كالانكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه.
وكل هذا عدول عن موجب الدليل.
وقد حكي عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج. وبعضهم استثني ابن عباس فيمن قال ذلك.
وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه. وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين، حيث قال: إنه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه عز وجل. ولم يقل بعيني رأسه. ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي اللّه عنه.
ويدل على صحته: ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي اللّه عنه: قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث الآخر: «حجابه النور».
فهذا النور هو- واللّه أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر رضي اللّه عنه: «رأيت نورا».
فصل:
وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ} هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أبي بن كعب وغيره.
وقد اختلف في مفسر الضمير في {نوره} فقيل: هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أي مثل نور محمد صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقيل: مفسره المؤمن، أي مثل نور المؤمن.
والصحيح: أنه يعود على اللّه سبحانه وتعالى. والمعنى: مثل نور اللّه سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور: رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم.
فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظا ومعنى.
وهذا النور يضاف إلى اللّه تعالى، إذ هو معطيه لعبده، وواهبه إياه.
ويضاف إلى العبد، إذ هو محله وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل. ولهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة.
قد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل: هو اللّه تعالى مفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء. والقابل: العبد المؤمن. والمحل: قلبه. والحامل: همته وعزيمته وإرادته. والمادة: قوله وعمله.
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما؟ من نوره: ما تقربه عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم.
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان.
إحداهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن.
فتأمل صفة المشكاة، وهي كوّة تنفذ لتكون أجمع للضوء- قد وضع فيها مصباح. وذلك المصباح داخل زجاجة تشبيه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا، من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح، محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة. والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور اللّه تعالى الذي وصفه في قلب عبده المؤمن، وخصه به.
والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل: المشكاة صدر المؤمن. والزجاجة: قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها.
وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن، ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء وبصلابته يشتد في أمر اللّه ويتصلب في ذات اللّه تعالى، ويغلظ على أعداء اللّه تعالى، ويقوم بالحق للّه تعالى.
وقد جعل اللّه تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف: (القلوب آنية اللّه في أرضه، فأحبها إلى اللّه أرقها وأصلبها وأصفاها) والمصباح هو نور الإيمان في قلبه، والشجرة المباركة: هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتّقد منها. والنور على النور نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور. ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه من الأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع، والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل، بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشبه الباطلة، والخيالات الفاسدة، من الظنون، والجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات. فهي في صدره كما قال اللّه: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [24: 40].
فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائق انتظمت طوائف بني آدم أتم انتظام واشتملت عليها أكمل اشتمال. فإن الناس قسمان: أهل الهدى والبصائر. الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم عن اللّه سبحانه، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه أمرها على من قل نصيبه من العقل والسمع، فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به، وهي:


{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}
وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق، أصحاب العلم النافع، والعمل الصالح، الذين صدقوا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم في أخباره، ولم يعارضوه بالشبهات، وأطاعوه في أوامره، ولم يضيعوها بالشهوات. فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ}، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون. أضاء لهم نور الوحي المبين، فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث اللّه به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من الحكمة وفصل الخطاب، إن عندهم إلا نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان التي قد رضوا بها واطمأنوا إليها، وقدموها على السنة والقرآن {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ} أوجبه لهم اتباع الهوى، ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان.
فصل:
القسم الثاني: أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، والظلم لأنفسهم باتباع أهوائهم، الذين قال اللّه تعالى فيهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} [53: 23].
وهؤلاء قسمان: أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب، الذين يجهلون الحق ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه، ويوالون أهله {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ} [58: 18].
فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب، الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي لا يخون صاحبه أحوج ما هو إليه. ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان. كما هو حال من أمّ السراب فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك: أنه وجد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، فحسب له ما عنده من العلم والعمل، فوفاه إياه بمثاقيل الذر.
وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه، فجعله هباء منثورا، إذ لم يكن خالصا لوجهه، ولا على سنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة كذلك هباء منثورا، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه.
و(السراب) ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، كأنه ماء يجرى.
و(القيعة) والقاع: هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا واد.
فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله: بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه، فيخيب ظنه، ويجده نارا تتلظى.
فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس، واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء، وإذا أتوه وجدوا اللّه عنده، فأخذتهم زبانية العذاب فنقلوهم إلى نار الجحيم: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} [47: 15] وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع والأعمال التي كانت لغير اللّه تعالى صيرها اللّه تعالى حميما، وسقاهم إياه، كما أن طعامهم 88 {منْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [: 6، 7] وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة، التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغنى من جوع.
وهؤلاء هم الذين قال اللّه عنهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [18: 103، 104] وهم الذين عنى اللّه بقوله: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} [25: 22].
وهم الذين عنى بقوله تعالى: {كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [2: 167].
القسم الثاني من هذا الصنف: أصحاب الظلمات.
وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاطت بهم جاهليتهم من كل وجه، وهم لذلك بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلا.
فهؤلاء أعمالهم التي يعملونها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد، واتباع الآباء من غير نور من اللّه تعالى.
فظلمات: جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة ظلم النفس بالتقليد واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث اللّه تعالى به رسله صلوات اللّه وسلامه عليهم. والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور.
فالمعرض عما بعث اللّه به عبده ورسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم، وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث اللّه به محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم من النور جدّ في الهرب منه، وكاد نوره يخطف بصره. فهرب إلى ظلمات الآراء. التي هي به أنسب. كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه *** ووافقها قطع من الليل مظلم
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار، ونحاتة الأذهان، جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طلع نور الوحي، وشمس الرسالة انجحر في جحرة الحشرات.
قوله: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (اللجى) العميق، منسوب إلى لجة البحر.
وهو معظمه.
وقوله تعالى: {يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه.
فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر.
وأنها أمواج بعضها فوق بعض.
والضمير الأول في قوله: {يغشاه} راجع إلى البحر. والضمير الثاني في قوله: {من فوقه} عائد إلى الموج.
ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب.
فههنا ظلمات: ظلمة البحر اللجى، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها.
واختلف في معنى ذلك:
فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية، وأنه قد ينفي وقوع الشيء ولا ينفي مقاربته. فكأنه قال: لم يقارب رؤيتها بوجه.
قال هؤلاء: (كاد) من أفعال المقاربة، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات. فإذا قيل: كاد يفعل فهو إثبات مقاربة الفعل. فإذا قيل: لم يكد يفعل: فهو نفي لمقاربة الفعل.
وقالت طائفة أخرى: بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد.
وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر، لأجل تلك الظلمات.
قالوا: لأن (كاد) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال. فإنها إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، فإذا قلت: ما كدت أصل إليك. فمعناه: وصلت إليك بعد الجهد والشدة: فهذا إثبات للوصول. وإذا قلت: كاد زيد يقوم.
فهي نفي لقيامه، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [72: 19] ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [68: 51] وأنشد بعضهم في ذلك لغزا.
أنحوي هذا العصر: ما هي لفظة جرت في لسان جرهم وثمود وإذا استعملت في صورة النفي أثبتت فإن أثبتت قامت مقام جحود؟ وقالت فرقة ثالثة، منهم أبو عبد اللّه بن مالك وغيره: إن استعمالها مثبتة يقتضى نفي خبرها، كقولك: كاد زيد يقوم: واستعمالها منفية يقتضى نفيه بطريق الأولى. فهي عنده تنفي الخبر، سواء كانت منفية أو مثبتة. فلم يكد زيد يقوم أبلغ عنده في النفي من لم يقم. واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل، وهو أبلغ من نفيه. وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها. وذلك يدل على عدم وقوعه.
واعتذر عن مثل قوله تعالى: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [2: 71] وعن مثل قوله: وصلت إليك وما كدت أصل، وسلمت وما كدت أسلم: بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له. فالأول يقتضى وجود الفعل. والثاني يقتضى أنه لم يكن مقاربا له، بل كان آيسا منه. فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان.
وذهبت فرقة رابعة: إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها. فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل، سواء كانت بصفة الماضي أو المستقبل. وإن كانت في طرف النفي فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله: {لَمْ يَكَدْ يَراها} وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات، نحو قوله: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ}.
فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة.
والصحيح: أنها فعل يقتضى المقاربة. ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها. فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها. فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا، فيكون منفيا باللزوم.
وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة، كما إذا قلت: لا يكاد البطال يفلح، ولا يكاد البخيل يسود، ولا يكاد الجبان يفرح. ونحو ذلك.
وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا. كما قال ابن مالك.
فهذا التحقيق في أمرها.
والمقصود: أن قوله: {لَمْ يَكَدْ يَراها} إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة، وهو الأظهر. فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها؟
قال ذو الرمة:
إذا غيّر النأي المحبين، لم يكد *** رسيس الهوى من حب ميّة يبرح
أي لم يقارب البراح. وهو الزوال. فكيف يزول؟
فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه.
وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج، الذي قد غشيه السحاب من فوقه.
فيا له تشبيها ما أبدعه، وأشد مطابقة لحال أهل البدع والضلال، وحال من عبد اللّه سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وترك به كتابه.
وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم.
وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم، فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها.
وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة.
فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد. ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة. ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه.
وقال في إعلام الموقعين: ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان:
أحدهما: من يظن أنه على شيء، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم. فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة، يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير اللّه، وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له، وليست كذلك. وهذه الأعمال التي قال اللّه عز وجل فيها: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} [25: 23].
وتأمل جعل اللّه سبحانه السراب بالبقيعة- وهي الأرض القفراء الخالية من البناء، والشجر والنبات والعالم- فجعل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى.
وتأمل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً} والظمآن: الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه، فلم يجده شيئا، بل خانه أحوج ما كان إليه. فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، ولغير اللّه جعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا، ووجدوا اللّه سبحانه ثمّ فجازاهم بأعمالهم، ووفاهم حسابهم.
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث التجلي يوم القيامة: «ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها السراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن اللّه، فيقال: كذبتم، لم يكن للّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟
فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن اللّه، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن للّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون» وذكر الحديث.
وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه.
فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل.
فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة، كالعمل لغير اللّه، أو على غير أمره، بطل العمل ببطلان غايته. وتضرر عامله من بطلانه، وبحصول ضد ما كان يؤمله، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده، لا له ولا عليه، بل صار معذبا بفوات نفعه، وبحصول ضد النفع فلهذا قال اللّه تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.
فصل:
النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة، وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع، وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم، فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي، لا ساحل له، وقد غشيه موج، ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب.
وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه اللّه منها إلى نور الإيمان.
وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة، وهو الماء، والظلمات المضادة للنور: نظير المثلين اللذين ضربهما اللّه للمنافقين والمؤمنين، وهما المثل المائي، والمثل الناري، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور، والموت المضاد للحياة، فكذلك الكفار في هذين المثلين. حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له، وحظهم الظلمات المتراكمة.
وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد.
ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأصحاب المثل الثاني: هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعموا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا حال المغضوب عليهم، والأول حال الضالين.
وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ} إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم، وهم أهل النور، والضالين، وهم أصحاب السراب، والمغضوب عليهم: وهم أهل الظلمات المتراكمة، واللّه أعلم.
فالمثل الأول من المثلين: لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع.
والمثل الثاني: لأصحاب العلم الذي لا ينفع، والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم: بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة، من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشبهات في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل.
فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين: يعرف عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
وأخبر سبحانه، أن الموجب لذلك: أنه لم يجعل لهم نورا، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها، فلم يخرجهم منها إلى النور، فإنه سبحانه ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.
وفي المسند من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن اللّه خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم اللّه».
فاللّه سبحانه خلق الخلق في ظلمة، فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيي به قلبه وروحه، كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه.
فهما حياتان: حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور، ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا، لتوقف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [16: 2] وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [40: 15] وقال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} [42: 52].
فجعل وحيه روحا ونورا، فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات وما له من نور.